دخل عمر بن عبد العزيز الجامع الأموى بدمشق وراح يدير عينيه فى المكان وهو يحس ضيقًا، فما فيه من زخارف وتهاويل وفسيفساء وذهب يشغل العابد عن عبادته، أين هذا الترف المصنوع من تلك البساطة الآسرة التى يتسم بها مسجد الرسول، إنه أيام كان يؤم مسجد الرسول فى المدينة قبل أن يأمر عبد الملك بن مروان بعمارته، كان يسعد بالأنوار الربانية التى تغشى المسجد، أما هنا فى المسجد الأموى الكبير فهو لا يشعر إلا بالاختناق، لكأنما قبته وجدرانه توشك أن تنقض عليه وتكتم أنفاسه.
وراح عمر بن عبد العزيز يردد: «إسراف.. إسراف».
أين بساطة الإسلام؟ لماذا كل هذا الإسراف؟ أنفق الوليد أربعمائة صندوق من الذهب فى كل صندوق أربعة آلاف دينار؛ فلو أنفق ذلك على المحتاجين لما كان فقير واحد فى مملكته.
ولما علم أهل دمشق بموقف عمر اختاروا خالد بن عبد الله القسرى ليكلمه وقال له:
ـ يا أمير المؤمنين بلغنا عنك أنك تريد أن تجرد المسجد مما فيه. فقال: نعم.
ـ ليس ذلك لك يا أمير المؤمنين.
وسأل عمر: لم؟ فرد خالد: لأن غالب ما فيه من الرخام إنما حمله المسلمون من أموالهم من سائر الأقاليم وليس هو لبيت المال.
فأطرق الخليفة مفكرًا، إنه لا يحب أن يحمل إلى بيت المال إلا مالاً طيبًا كما أن المسجد بهر الرومان فقال عمر دعوه.
دخلت فاطمة بنت عبد الملك على زوجها وهو جالس فى مصلاه واضعًا خده على يده ودموعه تسيل على خده فقالت: مالك؟
قال: ويحك يا فاطمة، وقد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت فتفكرت فى الفقير الجائع والمريض الضائع والعارى المجهود واليتيم المكسور والأرملة الوحيدة والمظلوم المقهور والغريب والأسير والشيخ الكبير وذى العيال الكثير والمال القليل وأشباههم فى أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربى عز وجل سيسألنى عنهم يوم القيامة، وأن خصمى دونهم محمد، فخشيت أن لا تثبت لى حجة عند خصومته فرحمت نفسى فبكيت.
وأرادت فاطمة أن تسرى عنه، إنه يعجبه جارية من جواريها وقد سألها إياها إما بيعا أو هبة، فكانت تأبى عليه ذلك، إنه الآن فى حاجة إلى من تنسيه أعباء الخلافة، فألبستها وطيبتها وأهدتها إليه ووهبتها له، ودخلت الجارية عليه يسبقها عبيرها ودنت منه فى دلال، فأعرض عنها فراحت تداعبه فصدف عنها فقالت له:
ـ يا سيدى فأين ما كان يظهر لى من محبتك إياى؟
ـ والله إن محبتك لباقية، ولكن لا حاجة لى فى النساء، فقد جاءنى أمر شغلنى عنك وعن غيرك.
ثم سألها عن أهلها ومن أين جلبوها، ثم قال:
ـ إنا لله وإنا إليه راجعون، كدنا والله نفتضح ونهلك.
ثم أمر بردها إلى بلادها.
سار عمر ليرد المظالم وهو خاشع متواضع لله، لم يعد يتبختر فى مشيته كما كان يفعل، فقد أقلع عن مشيته العمرية التى اشتهر بها، بل كان يفكر فيما يحمل من مسئوليات جسام تكاد تنقض ظهره، وتذكر ذلك اليوم الذى ولى فيه الخلافة إذ جاءه صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة على عادته مع الخلفاء فقال له:
ـ إنما أنا رجل من المسلمين.
ورأى نفسه وهو يسير وهم معه حتى دخل المسجد، وراح يذكر خطبته التى خطبها:
ـ أيها الناس إنى قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأى كان منى فيه ولم أطلبه ولا طلبته، ولا مشورة من المسلمين، وأنى قد خلعت ما فى أعناقكم من بيعتى فاختاروا لأنفسكم ولأمركم ما تريدون.
وجاء من أصداء الماضى صياح المسلمين صيحة واحدة:
ـ لقد اخترناك لأنفسنا وأمرنا ورضينا كلنا بك.
وراح يذكر ما قاله بعد ما هدأت الأصوات:
إن هذه الأمة لم تختلف فى ربها ولا فى كتابها ولا فى نبيها وإنما اختلفوا فى الدينار والدرهم. وإنى والله لا أعطى واحدًا باطلاً ولا أمنع أحدًا حقًا.
أيها الناس: من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعونى ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لى عليكم.
إنه قاسى من تكميم الأفواه أيام الوليد بن عبد الملك، فقد دخل السجن ثلاثًا وقد أصيب بأذى ووجع شديد فى رقبته لما اشتد فى نصحه للوليد وأمره أن يكف عن قتل المسلمين ومنع ولاته السفاحين من سفك الدماء لأوهى الأسباب، إنه ليدرك معنى الحرية السياسية، بل إنه ليرى أن الحاكم لا يركب موجة الطغيان إلا إذا أخرس الألسنة وحال بينه وبين الناصحين الراشدين.
إن الخلافة ليست جلب مغانم ولا التسلط على رقاب الناس ولا علوًا فى الحياة، بل هى مسئولية جسيمة لا ينهض بها إلا أولو العزم من الرجال، وكان ابن عبد العزيز يستشعر خطرها فكان يقول: «فلعمرى ما ازددت علمًا بالولاية إلا ازددت لها مخافة ومنها وجلاً ولها إعظامًا، حتى قدر الله لى منها وقدر على ما قدر، فأنا أشد ما كنت لها استقتالاً، ثم أحسن الله حميد أعوانى وعاقبتى وعاقبة من ولانى أمره، فأصلح أمرهم وجمع كلمتهم».
وعرف عمر أنه ما من حكومة رشيدة إلا وتقيم قوائمها على العدل، فكان أول ما فعله أن نحى الولاة الظلمة.
واختار قضاته من العلماء بما فى كتاب الله وبما مضت به السنة، وبمن اتصفوا بالحلم والعفاف والمشاورة وعدم الاستبداد بالرأى. ولم يتركهم دون توجيه بل كتب إليهم كتابًا بين لهم فيه أصول الحكم: «.. فإذا حضرك الخصم الجاهل الخرق ممن قدر الله أن يوليك أمره وأن تبتلى به، فرأيت منه سوء نزعة وسوء سيرة فسدده ما استطعت وبصره وأرفق به وعلمه، فإن اهتدى وأبصر وعلم كانت نعمة من الله وفضلاً، وإن هو لم يبصر ولم يعلم كانت حجة اتخذت بها عليه.
مطاعم الفقراء منتشرة فى طول الدولة الإسلامية وعرضها لا يصيب من طعامها إلا من طبخ له، والسخرة أبطلت فلا عمل بلا أجر، والمرضى وذوو العاهات يأخذون ما يكفيهم من بيت مال المسلمين، والفلاحون يأخذون من بيت المال عشرات الألوف من الدنانير، وزادت أعطيات الناس ولم يبق فى الدولة الإسلامية من يعيش عيشة الكفاف إلا أمير المؤمنين وأهل بيته ومواليه.
قال يحيى بن سعد:
ـ بعثنى عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيهم إياها فلم نجد بها فقيرًا ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقابًا فأعتقتهم.
كان راضيا بعيشة الكفاف التى يحياها، فكان يقول: ـ ما تركت شيئًا من الدنيا إلا عوضنى الله ما هو خير منه.
وراح عمر بن عبد العزيز يردد: «إسراف.. إسراف».
أين بساطة الإسلام؟ لماذا كل هذا الإسراف؟ أنفق الوليد أربعمائة صندوق من الذهب فى كل صندوق أربعة آلاف دينار؛ فلو أنفق ذلك على المحتاجين لما كان فقير واحد فى مملكته.
ولما علم أهل دمشق بموقف عمر اختاروا خالد بن عبد الله القسرى ليكلمه وقال له:
ـ يا أمير المؤمنين بلغنا عنك أنك تريد أن تجرد المسجد مما فيه. فقال: نعم.
ـ ليس ذلك لك يا أمير المؤمنين.
وسأل عمر: لم؟ فرد خالد: لأن غالب ما فيه من الرخام إنما حمله المسلمون من أموالهم من سائر الأقاليم وليس هو لبيت المال.
فأطرق الخليفة مفكرًا، إنه لا يحب أن يحمل إلى بيت المال إلا مالاً طيبًا كما أن المسجد بهر الرومان فقال عمر دعوه.
دخلت فاطمة بنت عبد الملك على زوجها وهو جالس فى مصلاه واضعًا خده على يده ودموعه تسيل على خده فقالت: مالك؟
قال: ويحك يا فاطمة، وقد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت فتفكرت فى الفقير الجائع والمريض الضائع والعارى المجهود واليتيم المكسور والأرملة الوحيدة والمظلوم المقهور والغريب والأسير والشيخ الكبير وذى العيال الكثير والمال القليل وأشباههم فى أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربى عز وجل سيسألنى عنهم يوم القيامة، وأن خصمى دونهم محمد، فخشيت أن لا تثبت لى حجة عند خصومته فرحمت نفسى فبكيت.
وأرادت فاطمة أن تسرى عنه، إنه يعجبه جارية من جواريها وقد سألها إياها إما بيعا أو هبة، فكانت تأبى عليه ذلك، إنه الآن فى حاجة إلى من تنسيه أعباء الخلافة، فألبستها وطيبتها وأهدتها إليه ووهبتها له، ودخلت الجارية عليه يسبقها عبيرها ودنت منه فى دلال، فأعرض عنها فراحت تداعبه فصدف عنها فقالت له:
ـ يا سيدى فأين ما كان يظهر لى من محبتك إياى؟
ـ والله إن محبتك لباقية، ولكن لا حاجة لى فى النساء، فقد جاءنى أمر شغلنى عنك وعن غيرك.
ثم سألها عن أهلها ومن أين جلبوها، ثم قال:
ـ إنا لله وإنا إليه راجعون، كدنا والله نفتضح ونهلك.
ثم أمر بردها إلى بلادها.
سار عمر ليرد المظالم وهو خاشع متواضع لله، لم يعد يتبختر فى مشيته كما كان يفعل، فقد أقلع عن مشيته العمرية التى اشتهر بها، بل كان يفكر فيما يحمل من مسئوليات جسام تكاد تنقض ظهره، وتذكر ذلك اليوم الذى ولى فيه الخلافة إذ جاءه صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة على عادته مع الخلفاء فقال له:
ـ إنما أنا رجل من المسلمين.
ورأى نفسه وهو يسير وهم معه حتى دخل المسجد، وراح يذكر خطبته التى خطبها:
ـ أيها الناس إنى قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأى كان منى فيه ولم أطلبه ولا طلبته، ولا مشورة من المسلمين، وأنى قد خلعت ما فى أعناقكم من بيعتى فاختاروا لأنفسكم ولأمركم ما تريدون.
وجاء من أصداء الماضى صياح المسلمين صيحة واحدة:
ـ لقد اخترناك لأنفسنا وأمرنا ورضينا كلنا بك.
وراح يذكر ما قاله بعد ما هدأت الأصوات:
إن هذه الأمة لم تختلف فى ربها ولا فى كتابها ولا فى نبيها وإنما اختلفوا فى الدينار والدرهم. وإنى والله لا أعطى واحدًا باطلاً ولا أمنع أحدًا حقًا.
أيها الناس: من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعونى ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لى عليكم.
إنه قاسى من تكميم الأفواه أيام الوليد بن عبد الملك، فقد دخل السجن ثلاثًا وقد أصيب بأذى ووجع شديد فى رقبته لما اشتد فى نصحه للوليد وأمره أن يكف عن قتل المسلمين ومنع ولاته السفاحين من سفك الدماء لأوهى الأسباب، إنه ليدرك معنى الحرية السياسية، بل إنه ليرى أن الحاكم لا يركب موجة الطغيان إلا إذا أخرس الألسنة وحال بينه وبين الناصحين الراشدين.
إن الخلافة ليست جلب مغانم ولا التسلط على رقاب الناس ولا علوًا فى الحياة، بل هى مسئولية جسيمة لا ينهض بها إلا أولو العزم من الرجال، وكان ابن عبد العزيز يستشعر خطرها فكان يقول: «فلعمرى ما ازددت علمًا بالولاية إلا ازددت لها مخافة ومنها وجلاً ولها إعظامًا، حتى قدر الله لى منها وقدر على ما قدر، فأنا أشد ما كنت لها استقتالاً، ثم أحسن الله حميد أعوانى وعاقبتى وعاقبة من ولانى أمره، فأصلح أمرهم وجمع كلمتهم».
وعرف عمر أنه ما من حكومة رشيدة إلا وتقيم قوائمها على العدل، فكان أول ما فعله أن نحى الولاة الظلمة.
واختار قضاته من العلماء بما فى كتاب الله وبما مضت به السنة، وبمن اتصفوا بالحلم والعفاف والمشاورة وعدم الاستبداد بالرأى. ولم يتركهم دون توجيه بل كتب إليهم كتابًا بين لهم فيه أصول الحكم: «.. فإذا حضرك الخصم الجاهل الخرق ممن قدر الله أن يوليك أمره وأن تبتلى به، فرأيت منه سوء نزعة وسوء سيرة فسدده ما استطعت وبصره وأرفق به وعلمه، فإن اهتدى وأبصر وعلم كانت نعمة من الله وفضلاً، وإن هو لم يبصر ولم يعلم كانت حجة اتخذت بها عليه.
مطاعم الفقراء منتشرة فى طول الدولة الإسلامية وعرضها لا يصيب من طعامها إلا من طبخ له، والسخرة أبطلت فلا عمل بلا أجر، والمرضى وذوو العاهات يأخذون ما يكفيهم من بيت مال المسلمين، والفلاحون يأخذون من بيت المال عشرات الألوف من الدنانير، وزادت أعطيات الناس ولم يبق فى الدولة الإسلامية من يعيش عيشة الكفاف إلا أمير المؤمنين وأهل بيته ومواليه.
قال يحيى بن سعد:
ـ بعثنى عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيهم إياها فلم نجد بها فقيرًا ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقابًا فأعتقتهم.
كان راضيا بعيشة الكفاف التى يحياها، فكان يقول: ـ ما تركت شيئًا من الدنيا إلا عوضنى الله ما هو خير منه.
كتاب "عمر بن عبد العزيز "
عبد الحميد جودة السحار
عبد الحميد جودة السحار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق